الجمعة، 31 أغسطس 2012

ورحل القطار



بقلم – أميمه العبادلة:

في المحطة، وقبل إطلاق الصافرة، تحشرجت روحها بصراخ ذاب وجعاً في ابتسامة نصف مشلولة، وبدموع تحجرت صخراً أدمى ما تبقى من نور أيامها..

ربتت على كتفه.. قبلته قبلة وداع.. وتمنت له معها سعادة لا مثيل لها.. وتعللت بموعد القطار لتشيح بوجهها عنه سريعاً، لئلا يرى مبلغ الانفجار العظيم الذي شتت ملامحها ومزق قلبها..

هرولت، لا ترى من الطريق أمامها شيئاً، ولا تدري أهذه أناس تتخبطهم، أم كالعادة مزيد من الجدران تتخبطها وتمنعها من الوصل حيث أرادت..

ألقت بنفسها في أول مدخل لعربة القطار، واستوطنت أول كرسي صادفها.. بالكاد أوصلتها خطاها الثقيلة، وقلبها المجهد الذي ما عاد له قِبَلٌ بالرقص ولا حتى بالدندنة..

كان هو، وما لم تره هي بوضوح لفرط ارتباكها، متسمراً لا ينطق، لا يتنفس، لا يسمع، ولا حتى يرى.. مذهولاً ومشلولاً لا يذكر من كل قواميس الكلمات حرفاً ينطق به لمنعها من المغادرة..

وهاجس كالطفل يحاول إلهاءه أنه في منتصف حلم سيصحو منه ليجدها بجاوره تهمس له: "أحبك"..

لصافرة القطار حين رحل، صوت دوى بداخله فاستوى منتبهاً من شبه الغيبوبة تلك، ونادى بأعلى صوته: "توقف أيها القطار.. توقف وعودي، أنا أحبك"..

غير أنها لم ترجع إليه، فسائق القطار آن ذاك كان مصاباً بالصمم..!!


الأحد، 19 أغسطس 2012

عبث في الذاكرة



بقلم – أميمه العبادلة:

في فيء العمر الذي صار جبلاً، تستوطن قبيلة من الذكريات تجمعت وتكدست في ذات البقعة من باطن العقل، فصارت شعباً عريقاً يخوض غمار أمنيات متسلسلة بإنتاج خاص ورؤية إخراجية ذاتية..

ورغم تأثير الذكريات البالغ فينا، إلا أننا ننسى كثيراً منها.. ننسى التفاصيل، ننسى الأسماء، ننسى الملامح، وبعض الشخوص..

لعل ذاك اعتيادنا عليها وعلى ما صنعته فينا.. فصرنا معها ككفيف حفظ زوايا بيته عن ظهر قلب، وما عاد البصر يُشكل لديه بعيد غاية، أو عميق حاجة..

حين يسكت الكون عن ضجيجه لبرهة من حولنا، وحين تضيق مساحة الفضاء ولا نكاد نرى شيئاً فيه غيرنا بماضينا وحاضرنا فقط.. حينها، يُجبرنا هذا الفراغ على التجوال سيراً على الأقدام العارية قسراً.. فنعيد اكتشاف أروقة منسية، ومنعطفات تلاشى دقيق معالمها..

إذا ليس الحنين ما يُرجعنا لتلك النقطة البعيدة جداً في عمق الذاكرة.. ليس الحنين أبداً.. إنه ملل الفراغ، وليس الفراغ وحده.. فلا تنخدعوا مجدداً بالملل الذي استوطن متسع الفراغ فضاق به.. ولا تحسبوه تخاطراً بثته إلينا روحِ مضت وولتنا الأدبار حين احتياج، وانبعث الضمير فيها على حين غفلة من القدر، فجاءتنا تمسك بوق الحنين وتستجدينا لنيل دور مكرر في حاضر الأيام أو مستقبلها..

هناك، في مدينة الذكريات ذاتها وأثناء تجوالنا العبثي لتفقدها، سنجد كثيراً منها منهكاً، نائماً يحسبه المارُ ميتاً.. ومنها ما سيكون نصف نائم، كذئب بنصف عين مغمضة ينتظر قطيعاً من السذاجة والحنين والفضول ليفترسه دون رحمة أو عناء.. وبعض آخر يلهو ويلعب، وينبش تربة الأيام لعلها تخصب وتزهر بشيء من الورود على قارعة الصدفة أو القدر..

في كل الأحوال ومهما اشتدت بك الوحدة أو مارس عليك الملل صنوفاً من إغراءاته، حذار أن توقظ نائماً في الذاكرة وإن بدا لكَ كطفل حالم، أو كمجرد جثة محنطة لا روح فيها.. فبعض الذكريات كعنقاءَ شرسة، متى ما استيقظت صارت تنيناً، لا يُلجم هياجه ولا تُطفئ ناره أبداً..